الشحاذة أو التسول ظاهرة اجتماعية سلبية لا تخلو منها مدينة من مدن العالم أو مجتمع من المجتمعات الإنسانية، وإذا كانت فئة ممن يزاولون هذا العمل اضطرتهم
ظروف الحياة ومصاعبها إلى الاستجداء والتسول لكسب العيش فإن فئة أخرى جعلت من التسول حرفة لجمع الأموال بالاستعطاف حيناً وبالتحايل أحياناً أخرى،
ومن يزر "دار العجزة" في مدينة حمص السورية يجد الكثير من هؤلاء الذين قُبض عليهم وهم يزاولون هذا العمل الوضيع.. وبعض هؤلاء لهم قصص طريفة ومواقف ظريفة وإن كان فعل التسول الذي يقومون به مرفوضاً بكل المعايير.
وتعتبر مدينة حمص ظاهرة فريدة في العالم من حيث خلوها من المتسولين والشحاذين، وإذا وجدوا فهم من الغرباء من غير أبناء المدينة، ويعود السبب في ذلك إلى جمعية البر والخدمات الاجتماعية التي تأسست فيها قبل أكثر من ستين عاماً واستطاعت أن تقضي على ظاهرة التسول من خلال دوريات المكافحة التي تجول شوارع المدينة طوال ساعات الليل والنهار، كما استطاعت أن تؤمن للمحتاج الحقيقي من المتسولين حياة كريمة في كنف الدار الخاصة التي أنشأتها لهذا الغرض (دار العجزة).. حول حكايات المتسولين وقصصهم الغريبة كان هذا التحقيق.
في البداية التقينا عبد الرحمن اليونس رئيس لجنة مكافحة التسول التابعة لجمعية البر والخدمات الاجتماعية الذي أكد أن حمص مدينة خالية فعلاً من المتسولين، وإذا وُجدوا فهم في الغالب من خارج المدينة وكثيرون منهم يستغلون طيبة أهل المدينة ورأفتهم.
وبحسب اليونس، فإن الفضل في القضاء على ظاهرة التسول يعود إلى جمعية البر والخدمات الاجتماعية التي تبذل جهوداً كبيرة في هذا المجال منذ أكثر من نصف قرن، فهناك سيارة جوالة طوال اليوم يمكن لأي إنسان الاتصال بها عبر هاتفها الجوال للإبلاغ عن أية حالة تسول.
ويضيف قائلاً: أي متسول يتم إحضاره إلى الجمعية ننظر في أمره فإن كان بحاجة حقيقية نعطيه ما يحتاج لسد حاجته أو يصبح من العائلات المستورة التي ترعاها الجمعية ويتقاضى معاشاً شهرياً بالإضافة إلى الغذاء والكساء، وإذا كان بحاجة إلى المال ولا يستطيع لعاهة أو مرض أو عارض صحي آخر نطلب منه الإقامة في مقر دار العجزة حيث الرعاية والاهتمام أما إذا لم يكن بحاجة ويزاول الشحاذة كـ "مهنة" فيُحال إلى القضاء لينال جزاءه، وعموماً ليس هناك من عذر للتسول فكل الأعذار أقبح من الذنوب في عمل وضيع كالتسول.
وحول قصص بعض الشحاذين الظرفاء كما عايشها يقول اليونس:
خلال عملي لأكثر من ثلاثين عاماً في مكافحة التسول عايشت مواقف وحكايات غريبة من عالم الشحاذين ومنها حكاية شحاذ حلبي جاء إلى حمص وافترش الأرض أمام الجامع النوري الكبير، وقد لف جسده بـ "الجبس" وكان يجمع المال وهو يصرخ متظاهراً بالألم، وعندما أرسلنا دورية لتحمله إلى مكتب مكافحة التسول قُوبل عناصرها بالشتم والصراخ من قبل الناس الذين كانوا يلتفون حوله وقد انطلت عليهم حيلة هذا المتسول المحتال، وحينما جيء به إلى الجمعية كان يصرخ بصوت عال، ولما سألته ما قصتك لم يجب بكلمة واحدة. وبعد جهد جهيد تكلم وقال لي: كنت أعمل (نجار باطون) وسقطتُ ذات مرة فانكسرعمودي الفقري وصرفت كل ما أملك على علاج نفسي، وإلى الآن لم أنته من العلاج، وكان جسمه ملفوفاً بقالب من "الجبس" من الرقبة إلى أسفل الجذع وسألته من أين أنت؟ فقال من حلب، قلت له: وكيف وصلت إلى حمص وأنت في هذه الحالة، فقال لي أهل الخير هم الذين أوصلوني..
ويتابع اليونس قائلاً: هنا بدأت الشكوك تساورني ورحت أحاول أن أكشف كنصيحه أنقلع من المنتدى لحالك ه وخصوصاً أن هناك حالات كثيرة تمر علينا في عملنا، وفجأة لمحت قميصه الداخلي ظاهراً تحت قالب "الجبس" وقمت بنزع ما يلبس من ثياب وسط صراخه وادعائه الألم فرأيت قالب "الجبس" مربوطاً تحت ذراعيه بسلك معدني، قمت بفك القالب فإذا جسمه سليم ولا يعاني من شيء، وعندها بدأ يتوسل إلينا أن نأخذ منه كل ما يملك ونتركه، وكالعادة في مثل هذه الحالات قمنا بإحالته إلى النيابة العامة وحررنا ضبطاً بما يملك من أشياء وأموال وتم إيداعه السجن لمدة شهرين.
والغريب - بحسب اليونس - أن هذا المتسول بعد الإفراج عنه جاء إلى مكتب المكافحة مصطحباً زوجته وأولاده ليأخذ حاجياته وأمواله من النصب والاحتيال، وعندما حاولت أن أوضح له أن التسول عمل غير شريف انبرى ليقول لي بكل وقاحة: (شوف أستاذ أنا أكسب في يوم واحد أكثر مما تكسب أنت من عملك في شهر.. أنا لدي بنايتان في مدينة اللاذقية ومثلهما في حلب وكل ذلك من عمل الشحاذة، ولكن هذه المدينة - يقصد حمص - لن أدوس أرضها بعد اليوم ما دمت حياً.
وثمة قصة لشحاذ محتال آخر وهو شاب أردني في الثلاثين من عمره جاء إلى مدينة حمص مدعياً أنه "رحالة عربي" ودخل إلى مكتب محافظ حمص طالباً منه ورقة تثبت أنه زار المدينة مبرزاً ورقة مشابهة حصل عليها من إحدى الجامعات الأردنية، فأُعطي هذه الورقة التي جاء فيها ما يلي: (زارنا في مدينة حمص الرحالة "ع. خ، نتمنى له التوفيق والنجاح في مهمته). بعد ذلك ذهب إلى (جامعة تشرين) في مدينة اللاذقية السورية، وحصل على كتاب مماثل ضمن رحلته إلى المدينة، وكان يأخذ هذه الأوراق ويذهب إلى المساجد طالباً من القيّمين عليها تسهيل مهمته في جمع الأموال من المصلين متذرعاً بكتابي المحافظ والجامعة، وكان يجمع من كل مسجد أكثر من ثلاثة آلاف ليرة في كل وقت صلاة.
وعندما قُبض على هذا الرحالة الشحاذ عُثر في حوزته على كتاب من جامعة العلوم والتكنولوجيا في محافظة (إربد) الأردنية يفيد بأن الجامعة المذكورة قد سمحت له بجمع التبرعات لمعالجة والدته المريضة كما عُثر معه على مبلغ كبير من المال بالإضافة إلى شيكات بما يعادل الـ 12 ألف دينار أردني، وتم تسليمه إلى النيابة العامة في مدينة حمص لمحاكمته واكتُشف أن "ابن بطوطة الأردني" هذا كان يستأجر شقة في حمص مع زميل له هرب خارج سوريا فور علمه أن زميله قد قُبض عليه بعد أن جمع كل ما في البيت من أموال وأشياء.
ومن حكايات المتسولين الغريبة، شحاذة محتالة كانت تزاول التسول بطرق مختلفة، وقد شُوهدت وهي تستعمل هاتفاً جوالاً مما يدل على وجود شريك لها، وعندما أُلقي القبض عليها من قبل عناصر مكافحة التسول في حمص وجد معها مبلغ كبير من المال.
وثمة شحاذ آخر كان يدعي أمام الناس أنه يريد ثمن ربطة خبز ليطعم أولاده، وعندما أُلقي القبض عليه عُثر معه على دفتر توفير في أحد مصارف حماة فيه مبلغ (578,258) ليرة سوريّة، فما كان يشحذه من الناس كان يودعه باسمه في المصرف علماً أنه لم يكن متزوجاً وليس له أولاد وآخر دفعة أودعها في المصرف هي (22454) ليرة في الشهر الأول من العام الماضي 2010.
ومن الشحاذين الظرفاء الذين تم القبض عليهم، شحاذ محترف كان يرتدي ثياباً أنيقة وجديدة يخفيها تحت ثيابه الرثة التي يستخدمها للتسول، وعندما تم القبض عليه عُثر لديه على محفظة جلدية أنيقة محشوة بعشرات آلاف الليرات وعلى هاتف جوال يخبئه تحت ثيابه الأنيقة، واكتُشف أن زوجته هي الأخرى تعمل متسولة بنفس الطريقة وتملك هاتفاً جوالاً وقد اعترف هذا المتسول بأنه يعمل في هذه (المهنة) منذ أكثر من ربع قرن دون أن يُكتشف أمره.